سورة يوسف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ}.
الواو للعطف، وهو عطف حدث على حدث.
والمراودة: المخادعة، والمخاتلة، والتدسس إلى النفس في أسلوب من التلطف والاحتيال.
وهيت لك: هو صوت استدعاء لهذا الأمر الذي يكون بين الرجل والمرأة، وقد جاء به القرآن الكريم، على هذه الصورة التي لم تعرفها اللغة العربية في لسانها قبل نزول القرآن.. لأنه يحدث عن حال من شأنه أن يكون سرا بين الرجل والمرأة، ولغة مفهومة لهما، لا يعرفها غيرهما.. وذلك إعجاز من إعجاز القرآن.. ودع عنك ما ذهب إليه الذاهبون من تأويلات وتخريجات لكلمة {هيت} وخذها على أنها حكاية صوت، لا على أنها من لغة التخاطب المتعامل بها في كل مقام!!.. إنها في مقامها هذا كلمة استدعاء.. وكفى!- وفى قوله تعالى: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها} إشارة إلى أنها ذات سلطان عليه، وأنه ربيب نعمتها، ونزيل بيتها.. وأن لها أن تأمر وعليه أن يطيع.
ولكنها جاءته مترفقة، متلطفة.. إذ كان هذا الأمر الذي تدعوه إليه لا يجاء له بأسلوب الأمر والقهر!- وفى قوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ} إشارة إلى أنها هى التي تولت بنفسها الإعداد لهذا الأمر الذي دعته إليه.. فهى التي راودته عن نفسه بما ألقت إليه من كلمات، وإشارات، وتلميحات.. وهى التي غلقت الأبواب، فكانت تلك دعوة صريحة منها إليه.. ثم هى التي- حين رأت أن ذلك كله لم يدعه إليها، ولم يقرّ به منها- دعته إلى نفسها، وقالت:
{هَيْتَ لَكَ} أي هأنذا لك، فأقبل! وهذا ما لا تفعله الحرّة ذات الجاه والسلطان، إلا إذا كانت قد استبدّت بها الرغبة، ثم لم تجد من الجانب الآخر استجابة منه لها.. عندئذ تخلع عذار حيائها، وتتخلّى عن مكانتها كامرأة تطلب ولا تطلب!.. وفى كل هذا ما يحدّث عن تعفّف يوسف عليه السلام، وامتلأ كه لداعى الشهوة أمام هذه المغريات، التي تنحلّ لها عزمات الرجال، وتطيش معها أحلام ذوى الحلوم! {قالَ مَعاذَ اللَّهِ.. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ومع كل هذا الذي ساقته المرأة إلى يوسف- عليه السلام- من جمالها، وسلطانها، ومن تلطّفها به، واستدعائها له، وعرض نفسها عليه، ومع هذا الشباب المتفجّر فيه، والدماء الحارة المتدفقة في عروقه- فإنه اعتصم بدينه، واستمسك بمروءته، فلم يقبل هذه الدعوة الآثمة، قائلا: {مَعاذَ اللَّهِ} أي عياذا باللّه، ولجأ إليه لدفع هذا المكروه عنّى.
{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} أي إن هذا الفعل فوق أنه عصيان للّه، وتعدّ لحدوده، هو خيانة للمروءة، وإنكار لإحسان هذا السيد الذي رباه، وأحسن مثواه.. والمثوى: المأوى الذي يأوى إليه الإنسان.
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
الضمير في {إنه} ضمير الشأن.. أي إنه في أىّ حال وشأن لا يفلح الظالمون، الذين يعتدون على حقوق الناس، فيخونون الأمانة فيما اؤتمنوا عليه، أو يجحدون نعمة من كان له نعمة وفضل عليهم..!
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
اختلف المفسرون في معنى الهمّ الذي همّ به يوسف.. أهو همّ عزيمة، أم همّ رغبة؟ وهل هو همّ فعل، أم همّ ترك؟
وصريح اللفظ أنه- عليه السلام- همّ بها، كما همّت به.. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} هكذا صريح للفظ القرآنى.. فلا وجه إذا للتفرقة بين أمرين متساويين، لفظا ومعنى.. كذلك اختلف المفسّرون في قوله تعالى: {لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} اختلفوا في البرهان.. أهو ملك جاءه من اللّه؟ أم شيء وجده في نفسه؟ أم صورة أبيه يعقوب، وقد ظهر عاضّا على إصبعه، محذرا من هذا الخطر الذي هو مقبل عليه.. إلى غير ذلك من عشرات الصور التي صوّر فيها المفسّرون هذا البرهان.!
وهم في هذا كلّه إنما يريدون أن يدفعوا عن مقام هذا النبي الكريم أن يطوف به طائف من السوء، أو تنحلّ عزيمته أمام أية فتنة، أو تستجيب طبيعته لأى إغراء.. فمقام النبوة هو القمة التي لا ترقى إليها الشبه، ولا يرتفع إلى سمائها هذا الدخان المتصاعد من شهوات النفوس وأهوائها، حين تشبّ فيها نيران الشهوة، ويتّقد لهيب الفتنة؟ ولكن فات هؤلاء الذين ينظرون إلى النبي هذه النظرة- ونحن ننظر إليه كما ينظرون- فاتهم أن النبي بشر قبل أن يكون نبيّا.. وأنه حين يلبس ثوب النبوة لا يخلع ثوب البشرية أبدا.
وغاية ما هنالك أنها بشرية في أعلى مستواها وأشرف منازلها.
وعلى هذا، فإن الذي نطمئن إليه، هو أن هذا البرهان كان شيئا حسيا، أو بمعنى آخر، كان حدثا وقع في تلك اللحظة الحاسمة، فحال دون وقوع هذا الأمر، وكان صارفا عنه.. والذي لولاه لوقع! وهذا البرهان هو- واللّه أعلم- إشارة كانت تعلن عن قدوم العزيز إلى أهله.. إذ من المعقول جدا أن يكون للعزيز شارة من الشارات، ينبّه بها زوجه إلى أنه قادم إليها.. وذلك كرسول يتقدمه، أو نفير يعلن عنه.. أو نحو هذا.
شأن أصحاب السلطان، حين يغدون، أو يروحون، بين مجلس الحكم، ومجلسه الخاص في أهله وولده.
وعلى هذا يكون المراد بربه هنا، هو سيده الذي ربّاه، وهو العزيز الذي يقول عنه: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ}.
ويكون بذلك، الضمير في {ربه} عائدا إلى ربه هذا.. وقد جاء على لسان يوسف أكثر من مرّة، الحديث عن السيد بلفظ الرب.. {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.
{ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.
وهذا الحدث الذي كان سببا مباشرا في الحيلولة دون وقوع المعصية، هو بالنسبة ليوسف عليه السلام برهان من ربّه، وآية من آيات فضله عليه، وحراسته له..!
فالأسباب الموصّلة إلى الأعمال الطيبة، أو الحائلة دون السيئة، هى دليل على عناية اللّه وتوفيقه.. كما أن الأسباب المؤدية إلى الشرّ، أو الصارفة عن الخير، دليل على خذلان اللّه للعبد، وتخليته وأهواء نفسه ونزغات شيطانه! فللذين التقوا بالأنبياء والرسل، وكانوا من حوارييهم وخلصائهم، إنما انتصبت لهم الأسباب المسعدة التي وصلتهم بهم، ومكنت لهم من أن يقبسوا من الهدى الذي بين أيديهم! وكذلك الذين التقوا بالرسل والأنبياء، وكانوا حربا عليهم، وظلاما يحجب ضوء الهدى عن الناس- إنما اجتمعت لهم الأسباب التي وقفت بهم هذا الموقف، وساقتهم إلى هذا البلاء! فالأسباب، ألطاف من ألطاف اللّه، وآيات من آيات رحمته، يدنيها- سبحانه- من أوليائه، وييسرهم لها.. أو هى مزالق وعثرات يهوى إليها أعداء اللّه، ويتساقطون فيها.. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} [5- 10: الليل] ومجىء العزيز، أو ظهور الشّارة الدالة على مجيئه في تلك اللحظة الحاسمة، هى آية من آيات اللّه، ورحمة من رحمته، ولطف من ألطافه، وحراسة قائمة على هذا النبي الكريم أن تزلّ قدمه.. وهكذا تحفّ ألطاف اللّه بعباده المخلصين، وتتداركهم رحمته، في أمثال هذه الساعات الحرجة.. يقول اللّه تعالى في يونس عليه السلام: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [143- 144: الصافات].. فهذا التسبيح الذي ألهمه اللّه إيّاه، هو اللطف الذي أمدّه اللّه به، وهو حبل النجاة الذي أرسله إليه وهو في بطن الحوت.
ويقول سبحانه في يونس أيضا: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [48- 50: القلم] وفى هذا يقول تبارك وتعالى لمحمد صلوات اللّه وسلامه عليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً} [74- 75: الإسراء] ويقول سبحانه عن رسله جميعا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا} [110: يوسف] فالرسل، والأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- مبتلون بما يبتلى به الناس من فتن، تلحّ عليهم بأهوالها، فيتلقونها بعزماتهم، ويصدّونها بإيمانهم، ويستعصمون منها بكل ما في طاقاتهم من قوّى، حتى إذا استنفدوا كل ما في كيانهم من صبر وبلاء، وكادوا يهزمون في هذا الصراع المحتدم، جاءهم نصر اللّه، وتوافدت عليهم أمداده وألطافه، فربطت على قلوبهم، وثبتت من أقدامهم، وإذا هم في مقامهم الرفيع الكريم، وإذا الفتن صرعى بين أيديهم، ملففة في تراب الخزي والاندحار! وأي فضل لأنبياء اللّه ورسله على غيرهم من الناس، إذا هم لم يبتلوا هذا البلاء، وإذا هم لم يجاهدوا هذا الجهاد في مواجهة الفتن ومغالبة الأهواء والشهوات؟
وأي فضل لهم إذا كانت الفتن لا تحوم حولهم، وكانت الأهواء والشهوات تتساقط من نفوسهم من غير جهد وعناء؟ وأي فضل لهم يحمدون عليه، ويستأهلون به هذا المقام العظيم الذي هم فيه، إذا لم تتحرك فيهم دواعى الشهوات، ولم تنازعهم الأهواء؟
إن الثواب- كما يقولون- على قدر المشقة.
وهذا يعنى: أن نصيب أنبياء اللّه، ورسله، وأوليائه من المعاناة والمشقة أكبر نصيب، وأنه يقدر ما واجهوا من بلاء وفتنة بقدر ما كان لهم من منزلة عند ربهم.
وفى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- المثل الأعلى فيما امتحن به، وفيما تعرض له، من فتن وابتلاء، في مشاعره، وعواطفه، ونوازعه.. فلقد شهد أهله يتمزّقون بين يديه شيعا، ورأى أتباعه وأحبابه يعذّبون بسياط الظلم بين يديه، ويموتون تحت وطأة هذا العذاب، كما رآهم وهم يخرجون مهاجرين، فارّين من وجه هذا البلاء، مخلّفين وراءهم أهلهم وديارهم وأموالهم.. ثم رآهم في ميدان القتال يخرون صرعى، يفدّونه بأنفسهم، وبودّه لو فدّاهم بنفسه.
وهكذا كانت حياة النبىّ ساعة بساعة، بل ولحظة لحظة، مسيرة شاقّة على درب طويل من الآلام والمحن.. وبهذا استحقّ تلك المنزلة التي استوى بها على هامة الإنسانية كلها، فكان سيد خلق اللّه، وخاتم رسل اللّه، وإمام أنبياء اللّه!! وعلى هذا، فإنّ لنا أن نفهم قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} على أن امرأة العزيز قد همّت به، وأنه- عليه السلام- همّ بها وكاد الأمر يقع، لولا أن تداركه رحمة من ربّه، فأقام هذا السبب المادىّ حائلا دون وقوع الفاحشة.
وفى هذا تتجلّى رحمة اللّه بأوليائه، ورعايته لهم! ومن جهة أخرى، فإن رسل اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليهم- ليسوا من عالم الملائكة، وإنما هم بشر، تتحرك في كيانهم نوازع الإنسان وشهواته، وأنّهم يغالبون هذه النوازع، ويمسكون زمام تلك الشهوات، ولكن إلى مدى، هو غاية ما يبلغه احتمال البشر.. حتى إذا كان النبىّ من أنبياء اللّه أو الرسول من رسله في مواجهة تجربة كهذه التجربة، التي استنفد فيها- كإنسان وكنبىّ معا- كلّ مالديه من صبر واحتمال، بشرىّ- جاءت أمداد اللّه، لتمد النبىّ في هذه المعركة التي لا بد أن يكسبها، ويكتب له النصر فيها، وذلك لحساب النبوّة والرسالة، ولحساب النبىّ كنبىّ والرسول كرسول.. تماما كما جاءت أمداد السّماء لتشارك في معركة بدر، ولتقوم إلى جانب الجهد الإنسانىّ، في كسب أول معركة للإسلام، تلك المعركة التي كان لا بد له أن يكسبها!!
قد أحسن الإمام البيضاوي، حين قال عن همّ امرأة العزيز بيوسف وهمّه هو بها: قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها.. والهمّ بالشيء: قصده والعزم عليه.. والمراد بهمّه عليه السلام، ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من اللّه، من يكفّ نفسه عند قيام هذا الهمّ ومشارفة الهمّ.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي بمثل هذا البرهان نجىء به إليه، لنصرف عنه {السّوء} أي الأذى، الذي تتعرض له فطرته السليمة {والفحشاء} أي المنكر الممثل في الزّنا. {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} هو تعليل لما أراد اللّه بهذا النبىّ الكريم من خير، فصرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباد اللّه الذي اصطفاهم اللّه، وجعلهم خالصة له.
{وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
حين رأى يوسف برهان ربّه، وهو الشارة الدلّة على مقدم العزيز إليهما- رأته معه كذلك امرأة العزيز، فأسرعا إلى الباب المغلق دونهما، وأسرع كل منهما طالبا الخروج من المخدع، وقد كان يوسف أسرع منها، فتناولته من خلف بيدها لتسبقه، ولتنجو بنفسها، فعلقت يدها بقميصه فقدّته من دبر، أي قطعته طولا، من الخلف.. وما كاد يفتح الباب حتى كان العزيز معهما وجها لوجه.. وكان جوابها حاضرا، إذ كانت تعيش في هذه المحنة أياما وليالى، وتفكر فيها وتقلّبها على جميع وجوهها واحتمالاتها.. ومن هذه الاحتمالات أن يعلم زوجها بالأمر، أو يضبطها متلبسة به.. فلما وقعت الواقعة، وجدت الجواب الذي أعدته. {قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
وهكذا تتّهم، وتحكم في التهمة، فلا تدع لزوجها فرصة للتفكير فيما ينبغى أن يواجه به هذه الموقف.. فها هوذا الحلّ حاضر بين يديه، لا يحتاج منه إلى تفكير!- وفى قولها: {مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} إشارة إلى أن الأمر لم يجاوز حدّ الرغبة والإرادة.
وفى قولها {بِأَهْلِكَ} بدلا من قولها {بي} لتضيف نفسها إلى العزيز، فتثير عاطفته نحوها، على حين أنها تغريه بهذا الذي اعتدى على العزيز في أهله! {قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
وكان ردّ يوسف على هذا الاتهام الجريء له، قوله: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}.
ففى هذه الكلمات القليلة المستغنية بصدقها عن كل قول، دفع يوسف التهمة الظالمة التي رمى بها.. وهكذا شأن أصحاب الحقّ، يجدون في الكلمة المرسلة على طبيعتها من غير حلف أو توكيد، ما يغنى عن كل قول.. وليس كذلك شأن أصحاب الزور والبهتان.. إنهم يكثرون من الثرثرة واللغو، ويبالغون في الأيمان الكاذبة الفاجرة، ليداروا هذا الباطل الذي يجرونه على ألسنتهم، وليبعثوا فيه شيئا من الحرارة والحياة!- قوله تعالى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها}.
هو جملة حاليّة، جاءت مصدقة لقول يوسف: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}.
أي قال هذا القول الذي صدّقه الحال، والذي استدل به العزيز على صدق يوسف وكذبها.
وقد اختلف المفسرون في هذا الشاهد الذي شهد.. فقالوا إنه طفل، أنطقه اللّه، وقالوا إنه رجل من أهل العلم.. وقالوا، وقالوا! والذي نراه- واللّه أعلم- أن هذا الشاهد هو العزيز نفسه، وأنه إذ نظر إلى يوسف، فرأى قميصه ممزقا، أدار بينه وبين نفسه حديثا عن هذا القميص:
لم مزّق؟ ومن مزّقه؟ ولم كان ممزقا من خلف لا من أمام؟ وهل لذلك من دلالة؟.. ثم أسلم نفسه لتفكير عميق، وفى رأسه تدور الأفكار، وتموج الخواطر.. يقلّب الأمر على جميع وجوهه، ويعرضه على كل احتمالاته.. ثم ينتهى به الرأى إلى تلك الحقيقة التي هى فيصل الأمر، ومقطع الرأى: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
هذا ما أمسك به العزيز من الخواطر الكثيرة، والآراء المتدافعة التي كانت تتوارد عليه.. وقد أمسك أولا بالخاطر الذي يبرىء زوجه، ويدين يوسف، فذلك هو الذي كان يرجوه، ويودّ لو أن هذه الفاجعة قد أقامت له الدليل عليه! {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ..}.
وإذ استراح العزيز إلى هذا الرأى، تلّفت إلى يوسف، وأخذه بعينيه، ونظر إلى القميص، فرآه قد قدّ من دبر! {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.
وهكذا برئت ساحة يوسف- وهو البريء دائما- وأقبل العزيز على المرأة، لا ليدينها في شخصها، بل ليجعل هذه التهمة قسمة مشاعة في بنات جنسها جميعا.. {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أيتها النساء {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} إنّ فيكنّ المكر والدهاء، وسعة الحيلة في هذا المجال.. وإذن فلا يستغرب منك هذا، بل ولا ينكر منك، فما أنت إلّا واحدة من بنات جنسك!! فلا عليك! {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ}.
{يوسف} منادى، أي يا يوسف، والمنادى له هو العزيز، يحذّره- وإن ظهرت براءته عنده- من أن يحوم حول هذا الحمى! ثم يلتفت إلى المرأة يطلب إليها أن تستغفر لهذا الذنب، وأن تطلب الصفح عن هذه الخطيئة التي كادت تقع فيها..!
وليس من الحتم اللازم أن تكون هذه المرأة مؤمنة باللّه، حتى تستغفر لذنبها- كما يقول بذلك المفسرون- بل يجوز- وهو الغالب- أن تكون وثنية، تطلب الصفح والمغفرة من وثنها الذي تعبده، أو من الكاهن الذي يقوم على خدمة هذا الوثن!- وفى قوله تعالى: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} بدلا من قوله: إنك كنت من الخاطئات، ليخفف على نفسها وقع هذه التهمة التي واجهها بها، فلا يجعل تلك الخطيئة مقصورة على بنات جنسها وحدهن، بل يشاركهن الرجال فيها، وهو منهم.. فلا عليها إذن أن تستغفر لذنبها هذا، الذي كان الناس- من نساء ورجال- معرّضين له.. فإذا كنت قد أخطأت فما أكثر الخاطئين قبل الخاطئات!.
وقد رأينا من قبل كيف أنه لم يواجهها بالتهمة في شخصها، بل واجهها بها في بنات جنسها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ}.
وقد اتهم بعض المفسرين العزيز بأنه كان ناقصا في رجولته، ولم يكن له أرب في النساء، لأنه استقبل فعلة امرأته بهذا الاستخفاف والبرود!.
وهذا تعليل غير صحيح.. إذ المعروف أن من كان في رجولتهم شيء من النقص، داروه بتلك الغيرة الزائدة، المجاوزة لكل حدّ!.
ولعل أقرب تعليل لموقف العزيز هذا، هو أنه كان ينظر إلى يوسف نظرته إلى ابنه، وأن ما كان من امرأته لم يكن إلا نزوة طائشة، أعمتها عن أن تنظر إلى يوسف نظرة الأم إلى ولدها، وأنها سرعان ما تعود إلى رشدها وتصحح نظرتها إليه.
والذي جعلنا نميل إلى القول بأن الشاهد الذي شهد بإدانة امرأة العزيز، هو العزيز نفسه- الذي جعلنا نميل إلى هذا القول، هو ما يشهد به واقع الحال، وهو أن العزيز وهو صاحب هذا المقام في قومه، ما كان له أن يفضح نفسه وأهله على الملأ، وأن يستدعى من يحتكم إليه، في أمر شهده هو بنفسه، واطلع عليه من غير أن يدله عليه أحد! وإنه لمن السفاهة والحمق، بل والعجز، أن يعرّض العزيز مكانته، وشرفه وشرف أهله لهذه الفضيحة على الملأ.. فيصبح، وإذا هو وزوجه على ألسنة الناس، يطلقون فيهما قالة السوء، ويولدون من هذا الحدث أحداثا تنمو وتتضخم على الأيام! فكان من الحكمة إذا أن يتدبر العزيز أمره بنفسه، وأن يحصر الأمر في أضيق حدوده، وأن يحسمه هذا الحسم الرشيد، في غير صخب وضجيج.. فكان حكمه هكذا:
{يُوسُفُ: أَعْرِضْ عَنْ هذا}.
{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ.. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ}.
لفتة إلى يوسف، ولفتة إليها.
ثم انتهى الأمر عند هذا الحد.. ولكن إلى حين..!
فلقد دبّر العزيز في نفسه أمرا.. ولكن بعد أن تنتهى هذه العاصفة.. فتحيّن ليوسف فرصة يدفع به إلى السجن بها.. ولكن من غير أن يكون لامرأته- في ظاهر الأمر- شأن يتعلق بها في أمر يوسف وسجنه.. من قريب أو من بعيد! على ما سنرى في أحداث القصة.. بعد.


{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}.
التفسير:
العزيز: السيد ذو السلطان والقوة، فهو عزيز بسلطانه وقوته.
شغفها حبّا: أي ملك قلبها، واستبد به.. والشّغاف: وسط القلب.
أعتدت لهن متكأ: أي أعدّت وأحضرت، وشىء عتيد أي حاضر.. والمتكأ:
ما يتكأ عليه، من وساد ونحوه.. أصب إليهن: أي أميل، والصبوة الميل إلى النساء خاصة، وصبا وصبأ أي مال، ومنه الصابئة، وهم الذين مالوا مع هواهم إلى عبادة غير اللّه.. والصبا: ريح لطيفة، تهب في أصائل الأيام القائظة، فتميل إليها النفوس.
قوله تعالى: {وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
لأول مرة يكشف القرآن الكريم عن شخصية المرأة التي راودت يوسف عن نفسه. فيحدّث عنها بأنها امرأة العزيز، أي السيد الحاكم في مصر، ومن هذا نعرف أن البيت الذي ضم يوسف إليه واحتواه، هو بيت حاكم مصر.
ولم يكشف القرآن من قبل عن مركز هذه المرأة الاجتماعى، لأن الأحداث كانت تجرى على المستوي المألوف في حياة الناس، عامّتهم، وخاصتهم على السواء.. فأى بيت كان يمكن أن يضمّ يوسف إليه، وأي امرأة كان من الممكن أن تراوده عن نفسه، سواء كانت امرأة ملك أو سوقة.. إنها امرأة أيّا كان وضعها الاجتماعى! إذ لم يكن ليوسف خيار في اختيار السيد الذي يملكه!.
أمّا حين يكون للحدث ذكر يراد به الكشف عن وقعه في المجتمع وأثره في الناس، فإن الأمر يختلف بالنسبة لمن يتعلق به الحدث، من حيث وضعه الاجتماعى ومكانته في المجتمع.
فالحدث يكبر أو يصغر، وتتسع دائرته أو تضيق تبعا لمن تعلق به الحدث..! إذ يقتل الرجل من عامة الناس، دون أن يشعر الناس بهذا الحدث أو يلتفتوا إليه، على حين يصاب الحاكم أو السيد من سادة القوم، بخدش أو جرح، فيكون ذلك حديث الناس في الأندية والمحافل، ليوم أو لبضعة أيام، وربما لشهور أو سنين.
فعيون الناس وآذانهم متعلقة بأصحاب السلطان والسيادة فيهم.. يتسمّعون أخبارهم، ويرقبون أحوالهم، ويشتغلون بالحديث عنهم، في كل ما يتصل بهم من صغير أمورهم وكبيرها.. هكذا الناس في كل زمان ومكان.
وعلى الرغم من أن حادثة امرأة العزيز كانت في دائرة ضيقة، لا تتعدى المرأة، ويوسف وزوجها، فإنه سرعان ما نفذت العيون من خدم القصر إلى هذا السر، ووقعت الآذان عليه، فكان همسا على الشفاه، ثم كان حديثا دائرا على الألسنة، أقرب إلى الإشاعة منه إلى الحقيقة.. وذلك لما كان من العزيز في معالجة هذا الأمر، بحكمة، ولطف، وحذر.
والنساء هن أكثر الناس بحثا عن أسرار البيوت، وأقدرهن على فتح مغالقها وكشفها.
وها هى ذى امرأة العزيز تصبح هى وفعلتها مع يوسف، حديث الطبقة العالية في نساء المجتمع، ممن هنّ على مداناة وقرب منها.
{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ.. قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
هكذا يتحرك الخبر، وتتحرك معه التعليقات المناسبة له.. {قَدْ شَغَفَها حُبًّا!!} أي ملأ قلبها حبّا، واستولى عليه.. {إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}! إنها الفضيحة قد أخذت تتحرك بسرعة في المجتمع، وإنها اليوم حديث نساء الحاشية، وما حولها، وغدا ستكون حديث البلاد كلها.. فلابد إذا من تدبير يمسك هذه الفضيحة، أو يخفف من انطلاقها، وإلّا أفلت الزمام وساءت العاقبة!
وفى سرعة، وحكمة، أخذت امرأة العزيز تعمل وتعمل! كما أخذ العزيز يفكر ويقدّر.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ..} {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} لقد أعدت امرأة العزيز وليمة، ودعت إليها هؤلاء النسوة اللاتي تحدّثن عنها بهذا الحديث الذي عرّضن فيه بها، وجرّحنها بقوارص الكلم، وطعنّها بألسنة الاتهام! وكان من تدبيرها أنها هيأت لكل واحدة منهن متّكأ، لتسلم نفسها إليه، مسترخية، وتمسك في يديها بسكين حادّ مرهف، تعالج به بعض الفاكهة التي بين يديها.
وهكذا أخذ النسوة مجلسهن هذا عند امرأة العزيز، وهن متكئات على المساند اللّينة، يتناولن الفاكهة بعد أن امتلأن بما قدّم لهن من شهىّ الطعام، على مائدة حفلت بكل ما لذّ وطاب منه.. وما كاد يبدأ الفتور عليهن، وهنّ مستسلمات لتلك الإغفاءة اللذيذة، التي تطوف بالمرء بعد غذاء شهىّ، يتجاذبن الأحاديث في تكسّر وفتور أشبه بأحلام اليقظة- حتى تضرب المرأة ضربتها فتصيب منهن مقتلا! وإذا يوسف، وقد أخذ زينته، إلى ما حباه اللّه من جمال الصورة، وجلال النبوة، يطلع عليهنّ، وكأنه ملك نزل من السماء، لا يدرين من أين جاء، فيصحون صحوة السكران من خماره، حين يجد نفسه بين يدى ظاهرة من ظواهر الطبيعة المفاجئة المذهلة.. وإذا كيانهنّ كله يصبح عيونا معلّقة بهذه المعجزة التي طلع عليهن القدر بها! واستبدّ بهنّ الذهول، ولم يعدن يدرين ماذا يمسكن في أيديهن.. وفى حركات لا شعوريّة أعملن السكاكين في أيديهن، فأصابت منهن ما كان من شأنه أن يصيب الفاكهة منها.. فسالت الجروح، ونزفت الدماء!! وعندئذ تنبهن إلى وجودهن.
{وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً..! إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}!! عندئذ استوثقت امرأة العزيز مما وقع في قلوبهن من يوسف، فصرّحت يمكنون سرّها، ووجدت أن ذلك ليس مما يعيبها، إذ كان الأمر أكثر مما تحتمله هى أو غيرها من النساء، في مواجهة هذه المعجزة التي لا قبل للنّاس أن يتحدوها.
{قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} وهكذا كان انتقام المرأة لنفسها ممن أظهرن الشماتة بها.. لقد أذاقتهن من نفس الكأس التي شربتها، فسكرن سكرتها، ووقعن أسيرات لهذا الجمال الآسر، وعشن معها بهذا الداء، يعالجنه، ويطلبن الشفاء له.. وهكذا أخرست تلك الألسنة التي كانت تذيع قالة السوء فيها، فشغلت كل واحدة منهن بهمومها، وأشجانها، مع هذا الجمال الملائكى القاهر.
أما يوسف- عليه السلام- فقد تضاعفت محنته، وتكاثرت حوله الفخاخ والشباك المنصوبة لصيده، والكيد له، ولم يكن له إلا ربّه- سبحانه وتعالى- يطلب العون منه، والحماية والصون ممّا يكاد له.
{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ}.
إنه بين يدى كيد يكاد له، وفتنة ملحّة تتبدّى أمام ناظريه، وتجىء إليه بكل مغرياتها.. وهو- بعد- إنسان.. معه قلبه، وشبابه وشهوته وإنه- في دينه ومروءته- ليؤثر السّجن على ما يدعونه إليه من إثم.
ولكن للاحتمال طاقة، وللصبر حدّ، ولن يمسك عليه دينه، ويدفع عنه هذا البلاء الذي لا يحتمل، إلّا عون يعينه اللّه به، وقوة يضيفها اللّه إلى قوته.
{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ}.
فصرف هذا الكيد، وإبعاد تلك الفتنة من طريقه، هو الذي يصرفه عن هذا البلاء، ويعافيه من هذا الشرّ، وذلك برعاية اللّه سبحانه وتعالى له، وصرف السوء عنه.
{فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
ولا تسل ما تدبير اللّه في هذا، فذلك من قدرة اللّه، ومن آياته.
{ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.
أي ثم بدا للعزيز، مع ما شاهد من الآيات الدالة على عفّة يوسف وبراءته مما رمته امرأته به- بدا له أن يأخذه بشىء من العقاب، وأن يلقى به في السجن، وذلك بعد أن هدأت نار الفتنة، ونسى الناس أمرها، حتى لا يقال: إن العزيز قد ألقى بيوسف في السجن عقابا للحدث الذي كان بينه وبين امرأته.
وتعالت حكمة اللّه..!!
لقد كان هذا السجن هو الصّارف الذي صرف به سبحانه وتعالى هذا الكيد الذي يراد بعبد من عباده المخلصين.. فلقد عزله هذا السجن عزلا تامّا عن موطن الفتنة، وباعد بينه وبين آفاقها التي تطلع عليه منها.
ثم كان هذا السّجن الطريق الذي سلك به إلى هذا الملك الذي أراد سبحانه وتعالى أن يضعه بين يديه: {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.


{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}.
التفسير:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ}.
والفتى هو الخادم، أو المملوك الذي في خدمة سيده.
ويجوز أن يكون هذان الفتيان قد دخلا مع يوسف السّجن في يوم واحد، إثر حدث وقع في قصر الملك، إذ كان هذان الغلامان ممن يخدمان الملك، فحامت حولهما شبهة دفعت بهما إلى السّجن، ودفع بيوسف إليه معهما، على حساب أنه ممن علقت به تلك الشبهة، بتدبير من امرأة العزيز، وممن معها من النّسوة اللائي كنّ في حاشيتها.. أو بتدبير من العزيز نفسه انتقاما لشرفه، الذي لاكته الألسنة زمنا.. وكانت المؤامرة التي وقعت في قصر الملك فرصة لأخذ يوسف مع من أخذ بها.
{قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
إنهما قد رأى كل منهما رؤيا مناميّة، وقد عرفا في يوسف علما وحكمة، فتحدثا إليه بما رأيا، وطلبا إليه أن يكشف لهما ما تنبىء عنه رؤيا كل منهما.
وفى قول كل منهما: {إِنِّي أَرانِي} إشارة إلى أن كلّ واحد منهما رأى نفسه في المنام على الصورة التي حدّثه بها.. فالرائى شخص والمرئى شخص آخر، وإن كان صورة منه.
{قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
لم يلتفت يوسف كثيرا إلى هذه الرؤيا التي رآها صاحبا سجنه، ولم يجعل بالكشف لهما عن تأويلهما، إذ كانت إحداهما تحمل الموت إلى صاحبها، على حين تحمل الأخرى لصاحبها الحياة والخلاص من السجن.. فآثر أن يتريث قليلا، ولا يكشف لهما عن هذا الجانب المحزن من الرؤيا.
ثم أخذ يحدثهما عما علّمه اللّه من علم، وأنه إذا كان سيكشف لهما عن تأويل رؤياهما، فذلك مما علّمه اللّه، الذي يؤمن به، بل إن اللّه سبحانه قد علّمه أكثر من تأويل الأحاديث، فهو- بما علمه اللّه- يستطيع أن يخبرهما عن أىّ طعام يحمل إليهما، قبل أن يأتيهما، وذلك على نحو ما كان لعيسى عليه السلام، إذ يقول لبنى إسرائيل: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} [49: آل عمران].
ويثير هذا الحديث تساؤلات كثيرة عن صاحبى السجن، تدور في رأسيهما، وتظهر على قسمات وجهيهما.. يبحثان عن هذا الربّ الذي يعلّم المؤمنين به، والعابدين له، هذا العلم.. إن لهما أربابا كثيرة، فلم لم تمنحهما شيئا من هذا العلم؟ وهل ربّ يوسف هذا على غير شاكلة الأرباب التي يعرفونها ويعبدونها؟
ويراها يوسف فرصة سانحة، للدعوة إلى اللّه، وإلى هداية هذين الضالّين إلى الإيمان، فيكشف لهما عن وجه الحق، ويفتح لهما الطريق إلى ربّه الذي يعبده! {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}.
إذن فقد كان من يوسف عمل، حتى وصل إلى ما وصل إليه، وهو أنه ترك دين قوم لا يؤمنون باللّه، وهم بالآخرة هم كافرون. وإذن فإنهما إن أرادا أن يلحقا به، فليتركا ملّة من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر، كما ترك هو ملّة من لا يؤمن باللّه، واليوم الآخر!
ويوسف عليه السلام لم يكن على غير دين التوحيد، فقد ولد مسلما، ابن مسلم، ابن مسلم، ابن مسلم، فهو كما في الحديث الشريف: {الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم}.
ولكنه يعنى بهذا أنه لم يكن مجرّد متابع لدين ورثه عن آبائه، بل إنه نظر إلى الدين الذي يدين به آباؤه، وإلى الأديان التي يدين بها الملحدون، الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، فعدل عن هذه الأديان، وتركها وراءه ظهريّا، وأقبل على دين آبائه، لأنه الدين الحقّ، الذي يدين به العقلاء! {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ}.
وفى قوله: {ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ} إشارة إلى أنه هو وآباؤه، وقد عرفوا طريق الحق، ما كان يصحّ عندهم أن يعدلا عن هذا الطريق إلى طريق الشك باللّه. وذلك من فضل اللّه علينا، وعلى الناس الذين حمداهم إلى الإيمان، وأقامهم على طريق الحق.. {ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون} اللّه على ما فضل به عليهم من نعم، فإن عدم التعرف على الإله المنعم كفران بهذه النعم، يقود إلى الكفر بالمنعم ذاته.
ثم يمضى يوسف، فيشرح لهما قضيّة الألوهية بمنطق الحسّ والمشاهدة:
{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}؟ إن العقل يقضى لأول خاطرة، أن الواحد الذي يجتمع إليه كل ما في يد الآخرين من سلطان، هو أولى بأن يلجأ إليه، ويلاذ به.
فاللّه- سبحانه- هو ربّ الأرباب، فكيف يعدل عنه إلى من هم تحت سلطانه؟ وكيف يعبدون من دونه؟ ذلك هو الضلال البعيد!
تلك هى القضية.. وهذا هو فيصل ما بين إله يوسف، والآلهة التي يعبدها القوم.
{ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.
وذلك ما كشف عنه الواقع من الآلهة التي يعبدها صاحبا السجن وقومهما.
ما يعبدون من دون اللّه إلا أسماء.. أي مجرد أسماء، لا مدلول لها، ولا قيمة لمسمّياتها.. هى أسماء ليس وراءها إلا خواء، وظلام.. تعلقت بها أوهام القوم، وأعطتها تصوراتهم هذه المفاهيم الخاطئة التي يتعاملون بها معها..!
وفى قوله تعالى: {ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.
أي أن هذه الأسماء ومسمياتها التي تختفى وراءها، لا تستند إلى حجة أو برهان، وأنها لم تقم على دعوة من العقل، أو على كتاب من عند اللّه.. وإنما هى من مواليد الباطل والضلال، إذ أجاءها العقل لم يجدها شيئا يقف عنده.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
فالحكم بين الناس، والفصل فيما هم مختلفون فيه، فيما يعبدون- هو للّه، وسيجزى كلّ عامل بما عمل.. وهو- سبحانه قد أمر ألّا يعبد غيره، وذلك فيما حمل الرسل إلى الناس من رسالات اللّه إلى عباده، فذلك هو الدّين الحقّ، المستقيم الذي لا عوج فيه. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} هذه الحقيقة، فيضلّون، ويكفرون باللّه، ويعبدون من دونه تلك الدّمى التي يسمونها آلهة! وإلى هنا يكون يوسف قد نفذ بدعوته إلى قلبى هذين الرجلين الضالّين، فهداهما إلى اللّه، وفتح لهما الطريق إلى صراطه المستقيم.. وهكذا لم ينس رسالته إلى الناس وإلى هدايتهم ودعوتهم إلى اللّه، وهو في سجنه هذا، يعالج المحنة، ويتجرع مرارة الظلم.
وإذ يستريح إلى أنه أدّى رسالته في هذه الحدود الضيقة، يعود فيكشف لصاحبيه عن السرّ المحجّب وراء رؤياهما.
{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ..}.
وهكذا بعد أن قال يوسف لصاحبى سجنه ما أراد أن يقوله- من الدعوة إلى الإيمان باللّه، وهما مشدودان إليه بتلك الرغبة الملحة عليهما في الاستماع إلى كلمته التي يقولها في تأويل رؤياهما- أخذ يكشف لهما- مما أراه اللّه- عن تأويل هذه الرؤيا..!
{أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ..}.
ويلاحظ أنه لم يقل لكل منهما على حدة تأويل رؤياه، حتى لا يواجه الذي سيصلب بهذا الخبر المزعج، بل ألقى إليهما تأويل رؤياهما معا، ليأخذ كل منهما بنفسه ما يراه متفقا مع رؤياه.
وفى قوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} توكيد لما كشف عنه من تأويل الرؤيا، وأن ذلك الذي كشف له عنهما من رؤياهما، هو أمر واقع، قضى اللّه به، ولا رادّ لما قضى اللّه!.
قوله تعالى: {وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.
وحين علم يوسف من تأويل الرؤيا أن أحد صاحبى سجنه سيخلى سبيله، ويعود إلى مكانه من الملك، ساقيا لشرابه- قال له: {اذكرني عند ربك} أي تحدّث بشأنى عند الملك، واكشف له عن الكيد الذي كاد لى به النسوة حتى ألقوا بي في السجن، فلعلّه يفكّ قيدى، ويطلق سراحى.
وفى قوله تعالى: {ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ} إشارة إلى أن علمه بتأويل الرؤيا لم يبلغ مرتبة اليقين المطلق الذي يتلقاه وحيا من ربه، ولكنه علم مستمد من بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهو- أيّا كان- علم ذاتىّ، يراه إلى جانب ما يوحى إليه من ربّه، ظنّا غير مستيقن.
وفى غمرة الفرحة بالخلاص، نسى صاحب السجن هذا الذي نجا، ما عهد إليه به يوسف، فلم يذكره عند سيده، وهكذا نسى الناس أمره، فلبث في السجن بضع سنين!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7